((الكوميديا)) كاتدرائية ضخمة وعمارة شاهقة، متناسقة البناء مترابطة الأجزاء، يعتمد فيها السابق واللاحق بعضه على بعض، وجعل دانتي فيها الإنسان والدنيا والآخرة والعالم والله في بؤرة واحدة، ووضع في إطارها العام كل المعارف والجزئيات الدقيقة المادية والمعنوية.
واستمد دانتي ذلك من ثقافته الواسعة، من الميثولوجيا، وحضارة القدماء، وتراث المسيحية، ومن أوروبا أوروبا وأفريقيا وآسيا، ومن الشرق والغرب، ومن ظروف الحياة التي عاشها، ومن إحساسه المرهف الذي لم يكد يحسه إنسان.
تمثل "الجحيم" الشباب الحر الطليق المتكبر الثائر، وتصور الفطرة والغرائز الإنسانية لإشباع ميولها، وهي الخطيئة والعذاب والمأساة والحياة الدنيا.
ويمثل ((المطهر)) التجربة والنضج والفكر، والتوبة والتطهر والأمل، ويصور ((الفردوس)) الكهولة والطهارة والصفاء والحرية والخلاص والنور الإلهي.
و((الكوميديا)) كلها مرآة الحياة وقصيدة الإنسانية الكبرى، وهي فن رفيع يهدف إلى تغيير الإنسان وإصلاح المجتمع، وقصد دانتي أن يجعل منها بداءةً لعصر جديد، وكأنه أراد بذلك أن يضع كتاباً مقدساً جديداً يهدي البشر إلى سواء السبيل، وبدا فيها دانتي كأنه أورفيوس جديد لعالم جديد.
الجحيم عالم الهاوية والخطيئة، ودنيا الأسى والعذاب الأبديّ، والمطهر عالم الصعود فوق الجبل الشاهق، للقيام بالتكفير والتطهر من الخطايا، مع الأمل في الخلاص والطوباوية، والفردوس عالم الصعود في معارج السماوات، وعالم السموّ والسلام والطوباوية، والإقتراب رويداً رويداً من جوهر الحقيقة الكبرى.
وتتشكل الأرواح الطوباوية بهيئة النور الصافي، الذي تخيلته البشرية رمزاً للروح من قديم الأزمان.
وبصفته عامة لا تبدو أرواح الطوباويين بصورتهم في الأرض، بل يظهرون في غلالة من أنوار طوباويتهم، حتى لتكاد تختفي مميزاتهم الفردية، والنور كالظلمة يحجبان كلاهما الرؤية، ويثيران خيال الشعراء.
ويظهر الطوباويون وقد أحس كلٌّ منهم بالتعادل الروحيّ، وتملكهم السلام النفسيّ، وامتزجوا بعضهم ببعض، وتآلفوا في محبة الله، وتساموا معاً في بحر الوجود الشامل.
والمطْهر كائنٌ بين الجحيم والفردوس، وهو حال وسط تصبح فيها الجحيم كذكرى للخطايا السابقة، ويشعُّ فيها الفردوس كأملٍ تتطلع إليه الأرواح النادمة التائبة.
والجحيم سوداء، مظلمةٌ، خانقة، منعزلة، مليئة بالضوضاء والصراخ والعويل أما المطهر فناصعٌ مضيءٌ تسطع فيه الشمس، ويطلع عليه البدر، وتظهر في سمائه النجوم، وهو مكان هادئٌ وادعٌ، يسوده يسوده جوٌ عذبٌ رقيقٌ وحينما تتطهر الروح من الخطايا يرتجف جبل المطهر ويتزلزل، ويرسل صوتاً مدويّاً إبتهاجاً بإنتصار الروح الآثمة على ذاتها.
وليس في الجحيم غناء او إنشاد لأنه تعوزها المحبة الشاملة، وتميل الكراهية إلى العزلة والإنطواء على النفس، بينما يتردد في أرجاء المطهر الإنشاد والترتيل والترنم والموسيقى، حيث تخرج الأرواح من إحساسها بذواتها، وتطلق أنغامها وأصواتها المتنوعة، وتندمج في شعور واحد من التعاطف والمحبة ومادة الترنم والترتيل أناشيد مقدّسة وصلواتٌ وإبتهالات وآيات من الكتاب المقدس، وتعبير عن الألم والأمل والبهجة، والتمدّح بالعذراء وبالسيد المسيح، ويبدو الملائكة أنهم أطيافٌ تكسوهم ألوانٌ من البهجة الصوفية، وتنعكس عليهم أضواء السماء والفردوس.