"كان أبي كثير الغياب عن المنزل خاصة في موسمي الربيع والصيف، حينها يتهيأ للرحيل كان يفتح صندوق أغراضنا التي نعتبرها ثمينة، يُخرج بعناية قطعة الثوب الأبيض النقي التي تحوي المزامير، ويختار واحداً منها، يضع سرواله الاسود المطوي بعناية، وقميصه الناصع البياض، ونعله الأصفر الجديد، وفي جرابٍ كبير من سعف النخل الجبلي، يحمل جلبابه الأسود المزركش بورود من خيوطٍ ناصعة الألوان على كتفه، يقبلني، يودعنا ويرحل، كنت أعرف من أمي أنه يذهب بحثاً عن الرزق، لكن عمتي تقول لي إنه يذهب أساساً ليغني للجبال الصماء، وتشير بيدها إلى قمم الجبال التي تمتد محتضنة قريتنا، والتي تتفرّع منها صخرة بيضاء عملاقة على شكل أذن.
تعي عمتي أنني لم أفهم كلامها فتخاطبني: والدك يغني للجبال عبر إحياء الحفلات ونثر الفرح بين الناس بصوته ومزماره، حتى تنبت زهرات البلسم من بين صممها، أحملق فيها مشروهة وهي تضيف: تميناً برؤية زهرات البلسم تنمو أطلقنا عليك اسم زهرة، وصمتت عمتي للحظة قبل أن تواصل حديثها موضحة: أبوك نذكر نفسه للغناء، إنه يرى أن الغناء هو السبيل للشفاء من شرور النفس، وما تبثه المرتفعات الرمادية المحيطة بنا من همِّ ثقيلٍ على القلب.
كنت أتابع حديثها بإهتمام كبير، رغم أني لم أكن أفهم أغلب ما كانت تحكيه، دون أن تنتظر مني أن أسألها عن علاقة الغناء بالشفاء من شرور النفس، تابعت حديثها: ما غناؤه إلا وصية من أجداده منذ قديم الزمان، نحن منذورون للغناء لعمى الحبال وصمم القلوب.
القرويون كذلك يعتبرون غناء والدك تحدّياً، ونكابة بما يُنثر من غبار الصمم حولهم، وترفيهاً عليهم من قسوة عيشهم، كانوا يلحّون عليه لتنشيط أفراحهم، سواء أكانت عرساً، أو عقيقة، أو ختاماً، أو إحتفالاً بموسم الحصاد...
في غالب الأحيان كان والدك ينشط الحفلات من دون مقابل أو بمقابل زهيد... وكنت الصوت النسائي الوحيد في الجوقة التي تتكون بالإضافة إليها من طبّال، وزمار، أفراد الجوقة كانوا يحيون الحفلات بالغناء والضرب على الطبل والنفخ في المزامير، ليلهبوا الحاضرين والحاضرات مرحاً ورقصاً وزغاريد، كأن أبي يغني، ثم يعزف على المزمار موسيقى لكلماته، قبل أن يتدخل رفيقاه بالتطبيل والتزمير، وعمتي بترديد لازمة الأغنية.
كان يغني عن الحب والصبر وعن جمال البنات وجمال النبات والزرع والربيع والخضرة والماء، ورغبة الحبيب في اللقاء بمحبوبه، وعن صمم وخرس الأحجار وإنتظار ظهور زهرات البلسم، ينتشي أصحاب الحفل فيكرمون الجوقة ويهدون لوالدي علاوة على أجرته القليلة؛ قطعاً صغيرة من اللحم، وبعض الخبز وأحياناً حبات من الحلويات البدوية، باقي الأيام يقضيها أبي برفقتنا كسائر القرويين، يقتني ببستاننا الصغير، يرعى الماعز ويوفر المرعى لبقراتنا ويتوجه للسوق لجلب ما قد نحتاجه من مؤن وبيع ما قد يفيض عن حاجتنا، أمي كانت تساعده بتفان عازمة على جمع قدرٍ كافٍ من المال يساعدنا على الهجرة إلى المدينة "هي الأحلام تأخذهم إلى البعيد... إلى المدينة مع تلك الأغاني التي يرددها ذاك الأب الذي أبلغ بشذوه قمم الجمال الصماء... علّها في يوم من الأيام تخرج عن صمتها... فتردد معه ذاك الشدو الذي تخرج معه زهرات البلسم حتى وإن بقيت صماء...
أحلام وآمال ترحل مع تلك الغيوم المتسلقة على رؤوس الجبال إلى لا مكان... تضيع عن أصحابها... فتبقى الأم تحمل هذا الحلم بين جنبيها... حلمها كبير... حلمها يبدأ مع الهجرة إلى المدينة... لتدخل زهرة المدرسة وتصبح قادرة على فك الحروف... وتلك العمّة البائسة الغارقة في ظلام عينها يبدو لها الأمل مشرقاً في الهجرة إلى المدينة... علها تزيح الظلمة عن عينيها... تلك الظلمة التي سربلتها بها عذابات قرية، حجبت النور عن أبنائها... أما زهرة... فما زالت تنتظر ذاك اليوم التي تنبت به زهرات البلسم على ضعاف روحها...
مع تلك الهجرة الموعودة إلى معينة تحتضنها... وتريحها من كل العذابات التي كانت تلاقيها في تلك القرية...
شارك المنتج مع اصدقائك