إن متعة الإرتحال مع القرآن متعة لا تعدلها متعة، فمع كل نقلة يتم استفزاز العقل لاكتشاف المعنى والعلاقات، فهناك دائماً ما يستثير السؤال، وهناك، دائماً ما يحتاج إلى تفكّر، والناس في البحث في القرآن يسلكون طرقاً شتى، فالظواهر البشرية عامة تظهر في المجتمع البشري بصور مختلفة، والقرآن يقدم نماذجها الأساسية في سياق الأحداث التي أحاطت بالدين لحظة تنزله، وهذه النماذج هي ما نحرص على الكشف عنها في لمسات قصيرة مع كل آية، ويعيد القرآن تكرار كثير من المعاني في سياقات شتى ربما لأهميتها وربما لطرقها منه زاوية مختلفة باعتبار السياق.
في كتابنا الأول أنا والقرآن: محاولة فهم، التقينا بسورتين عظيمتين هما الفاتحة والبقرة .. وفي هذا الكتاب، الثاني، سنلتقي بسورة آل عمران، فهي سورة طويلة ترسم لنا ملامح نشأة الديانة المسيحية وجذورها بالطريقة القرآنية الفريدة التي تركّز على مشاهد أساسية تختصر بها المسافة الزمنية، حتى يراها الإنسان ويستشعرها وكأنها تتم أمامه مختزلة التفصيلات المتعلقة بالزمان والمكان والأسماء بأقصى قدر ليظل العقل مرتبطاً بالموضوع ذاته فلا يتشتت. والسورة تعالج مشكلة تأليه المسيح عيسى ابن مريم وترد على حجاج النصاري حوله؛ لتكشف لنا بعداً آخر من تعامل الإنسان مع الدين الذي ينتهي بتقديس البشر ورفعهم فوق مستوى البشرية، حتى تحذر الأمة الخاتمة من ذلك الطريق الخطير، فالموضع بقدر ما هو خطاب للنصارى ولكنه درس لما يحدث للبشر في علاقاتهم، وكيف أن الناس ينتقلون من التقدير إلى التقديس ويختفي الحد الفاصل بين الإنسان وبين المقدس.