"أين يمكن لك إذن أن تهرب في داخل قطار عابر للمناطق بعد أن غادرت الملجأ الوحيد الذي يحميك بزجاجه الأبيض كالحليب من عرض الأشباح؟ في البدء يريد أن ينزل في ماغدبورغ، لكنه يبقى للهدف الذي تشير إليه تذكرته ويرجو من نهر الألبه أن ينقذه. يقف نهر الألبه بالعرض. نهر الألبه هو الحد الطبيعي لمعسكر السلام. ستحبط كل الأشباح المفزعة للطيور وكل هذه الكائنات المتحركة خارج القطار عند الضفة الغربية لنهر الألبه وستصدر صرختها أو عويلها تجاه السماء، بينما يفر القطار عابراً جسر نهر الألبه الذي لم يتم الانتهاء من إصلاحه بعد. ولكن أثناء تأمل ماتيرن والقطار نصف الخاوي للخلاص من الفزاعات خلف جسر نهر الألبه، يخرج من بين أعواد بوص النهر على الناحية الشرقية شر أعظم: لا تهرع رسل الفزاعات المعتادة، التي تشبه الرسل التي تجري بين ماراثون وأثينا وحدها، بل يمضي أيضاً كلب أسود، ما تزال فروته مبللة بماء الألبه، في اتجاه وحيد لا يحيد عنه: إنه يتبع القطار العابر للمناطق! يتسابق كتفاً لكتف مع القطار الذي يمرّ سريعاً في معسكر السلام. يسبق الكلب القطار المتأخر قليلاً عن موعده،.. ثم يعاود الكلب الرجوع لكي يشبع ماتيرن من رؤية هذا السواد. لو تركت الكلب بلوتو لدى الكاثوليك وليس لدى الإرسالية المنافسة المحبة للحيوان! لو كنت أعطيته السم المجرب وضربته بعصا لفقد هذا الكلب شبه الأعمى رغبته في الصيد والقفز. هكذا إذن يصفر كلب رعاة أسود ما بين غنتين وبراندنبورغ سنوات كلاب عديدة. تبتلعه التموجات الأرضية وتقذفه الطرق الضيقة. تقسمه أسوار الحدائق إلى ستة عشر جزءاً. حركات جميلة متساوية أثناء الجري. يلمس الأرض بنعومة الساقان الخلفيتان القويتان، لا أحد يقفز هكذا سواه". الفزاعات، الكلاب، المناجم، العصافير، رموز وظفها غونتر غراس للإفصاح عن واقع ما. من الصعب، بل من المحرم التعبير عنه ونقده بشكل مباشر.
يقف القارئ عند منعطفات عديدة في هذه الرواية متفكراً بما خلف السطور وخصوصاً عندما يعلم المؤثرات الحياتية التي دفعت الكاتب إلى إبداع هذه الأحداث وهذه الحوارات وهذه المنولوجات الداخلية وهذه التصورات المفعمة بمسحات تهكمية ساخرة ناقدة. فالكاتب غونتر غراس المولود في العام 1927 بضاحية لانقفور التابعة آنذاك إلى دولة داتسغ الحرة، كان جندياً في سلاح الجو الألماني ومن ثم في صنف الدروع، وبعد أن جرح في إحدى المعارك تم أسره من قبل القوات الأمريكية، وبعد إطلاق سراحه مارس العديد من المهن، ليتابع بعدها دراسته بكلية الفنون ولنشر أولى قصائده في العام 1955، ثم ليبدأ مسيرته الروائية في العام 1960 ومن فرنسا التي أقام فيها بروايته "الطبل والصفيح" التي جلبت له شهرة واسعة، لتتبعها أعمال أخرى مهمة مثل: "القط والفأر" و"أعوام الكلاب" التي اصطلح عليها بثلاثية داتسغ. وقد حظيت أعماله الإبداعية والفكرية باهتمام الرأي العام الألماني والعالمي منذ عشرات الأعوام، وقد توّجت أخيراً بجائزة نوبل للآداب، وذلك في العام 1999.
سنوات الكلاب تُعدّ من أهم الأعمال الروائية التي كُتبت بعد الحروب العالمية الثانية، وما زالت إلى اليوم مثار جدل واسع في مختلف الأوساط الثقافية والسياسية والدينية. إنها رواية منذرة، جدّية، عميقة الدلائل، ذكية في تناولها للموضوعات، المحرّم منها والمباح، ولاذعة في سخريتها. واعتمدت في بعض تقنياتها على أسلوب السرد العربي القديم الذي ينتمي إليه غراس حسما أكّد في مناسبات عديدة. إنها تمثّل الجزء الثالث والأخير من ثلاثية دانتسيغ التي صدرت عن منشورات الجمل.