إن أزمة الخليج لم تكن مرّة مجرد مسألة تدخلات أجنبية أو رجل شرير يلعب دوره الديماغوجي، بل كانت في الأساس فشلاً أخلاقياً عربياً ذا اتساق تاريخي، يجد، بكل من يهتم بمستقبل هذا الجزء من العالم أن يشعر حياله بمسؤولية شخصية. فهناك شيء ما في مكان ما من المسار العربي الحديث كان مخطئاً على نحو عميق، وصدام حسين لم يفعل سوى تجسيده وتمثيله.
وفي هذا الكتاب لا يدعي المؤلف أنه استطاع تفسير الخلل، وإنما هدفه الاعتراف به ووصفه. فوسط عاصفة العواطف التي أثارتها حرب الخليج، تراءت له أن "القسوة والصمت" هما صياغة ذلك الواقع. والقسوة والعنف يتقاطعان من غير أن يكونا واحداً. يمكن تبرير العنف، تبعاً للأهداف التي يُسعى إليها (مثلاً فعل الدفاع عن النفس). وقد يكون هناك عنف بين ندّين في المقابل. لكن لا يمكن البتة تبرير القسوة لأنها تقوم على تقصد إلحاق الأذى الجسدي بأفرادهم في موقع الضعف. ذاك أنه لتكون هناك قسوة، ينبغي أن يكون هناك شكل من الخضوع والعجز. والقسوة السيكولوجية والاجتماعية لا تدخل في حيّز ما يطرحه هذا الكتاب ولكنها تتأتى إلى حدّ بعيد عن القسوة الجسدية، وتغذيها. فالاعتداء على الجسد البشري بالقوة أو بواسطة أداة ما ينم عن خاصة غير عقلانية، متجذرة ولا يمكن اقتلاعها. إنها القاع الصخري القائم تحت كل طبقات الأمور الفظيعة التي يفعلها البشر بعضهم بالبعض الآخر.
والقسوة التي المؤلف بصددها لا علاقة لها البتة بـ"الجينات" أو "الأسباب ما قبل التاريخية"، بل إن مسببها سياسي وتأثيرها عالمي، ومجرد حدوثها هو بمثابة إهانة لإنسانية الجميع، وهذا ما يجعلها تخترق الحساسيات والحدود الوطنية والدينية. لقد تفاقمت قسوة من هذه الصنف الكوني في أجزاء عديدة من العالم في السنوات الأخيرة، وبنسب تختلف سرعةً وبطئاً. وأحد الأسئلة الرئيسية المطروحة في القسم الثاني من هذا الكتاب هو: هل تفاقمت القسوة في العالم العربي في العقدين الأخيرين؟ فإن كان الأمر كذلك، ما هي الأشكال التي اتخذتها؟. لقد تعاظمت بالتأكيد خلال الثمانيات في العراق، والدورة الأخيرة من الغزو والاحتلال والحرب والانتفاضة، التي أطلق صدام حسين عنانها من المنطقة، انتهت.. وبات لدى كل عربي شيء ما ملح يقوله بشأن المسألة، إلا أن ما هو أهم، أن ضحايا القسوة بدأوا يتكلمون، ويرون القصص كما لم يفعلوا قط من قبل. وقد أراد المؤلف لكل تلك الكلمات الجديدة التي كانت تتدفق متعثرة أن تكتب هذا الكتاب نيابة عنه.
وبهذا المعنى فإن القسم الأول من الكتاب هو بالتأكيد القسم الأهم، إنه رحلة إلى داخل تلك القسوة، مروية بكلمات الأشخاص الذين عاشوا تجربتها بالدرجة الأولى. ودور المؤلف كان تحويل كلمات أبطال هذا الكتاب "خليل، أبو حيدر، عمر، مصطفى وتيمور" إلى قصص وأخبار عن الأمور اللامعقولة التي في استطاعة الكائنات البشرية أن يفعلها بعضها ببعض. ومن زاوية أخرى، فإنه وفي الماضي كان الغرب الواسع النفوذ يتلاعب في مصير العالم ويقرره، وما زال ذلك قائماً إلى حدٍّ أو آخر اليوم.
وهدف الجزء الثاني من هذا الكتاب لا يمكن فيه نفي ما يبدو جلياً، بل في إظهار كيف أن أهل الفكر في العالم العربي حوّلوا "التاريخ" إلى حالة ذهنية سياسية فاسدة كلياً، تتعارض مع وضع العرب الحقيقي. والكثيرون من العرب علموا أن خللاً ما فظيعاً حصل داخل العالم العربي، لكنهم قرروا عدم الجهر به، ولا سيما أمام جمهور غربي. وبذلك بات هذا النوع من المثقف جزءاً من المشكلة بدل أن يقف في راس العاملين على حلها، ففي زمن الأزمات الأخلاقية، يتحول الصمت إلى موافقة، والتخلي عن المسؤولية الفكرية أمر خطير بين المثقفين، وأكثر مما بين أولئك الذين لا يرون المشكلة أصلاً، إذ المثقفون يعرفون أكثر. وقد اعتمد المؤلف سيل المقالات والتصريحات التي كتبها هؤلاء المثقفون خلال السنة ونصف السنة الأولى من الأزمة كمصدر رئيسي في وصف سياسة الصمت هذه.