"قبل أن أختم قصتك، عندي شيء أحكيه لك، يا أمي. منذ ساعاتٍ شعرتُ بمطرقة على جبيني، ربما نتيجة الصباح تحت الشمس والقيظ، وتوغلت في البيت الخشبي أبحث عن حبة أسبرين. على الطاولة اكتشفت ملاحظة موقعة من قِبل "فيكرام" فكاد الغثيان يهدّني. ركضتُ إلى الغرفة وتبيّنت أن حقيبته وأوراقه اختفت. قال لي بخطّه المخربش إنّه قرأ خلسة هذه الصفحات وإنّه ما عاد يتحمل كذبي وإن كل الذي كتبته مهزلة؛ وربما كنت أحضّر ذلك كي أزيد من مسؤوليته عن سوء إدارة حي في كابيتال منجمنت؛ وإنّه تبعني حتى هُنا، لكنّه لم يكن مستعدّاً لأن يتحول إلى عملة للتبادل، إذا كنت أفكر أن أتفاوض مع السلطان. وإن عليّ أن أغادر بأسرع وقت هذه الجزيرة، التي لن يتأخر في الكشف عن اسمها للإنتربول. أحمق! حتى ولو أردتُ أن أكرهه بسبب هذه الخيانة الأخيرة وغير المتوقعة أبداً في متتالية الخيانات هذه، إلّا أنّ قلبي يبقى لا يتعكّر تجاهه. هذه الأوامر المليئة بالوشايات والكذب تقترب من نهايتها وعليّ أن أكتبها بنفسي. في الخارج تستمر الغيوم العالية والمشؤومة وصدى الرعود يهزّ الزجاج، علامات الإعصار الذي لن يتأخر في الانفلات.
أخيراً ها قد بقينا وحيدين، يا أمي أعود لأتصورك في تلك الأشهر المفجعة في عام 1953. مضت عدّة أيام على رحيل "نُوَا" إلى كوينز - ذلك الملاذ الذي تصرّين على تصويره - كحظيرة خنازير - ، بينما تستمرين أنتِ في بروكلين، متعلقة بيـ بتلك الحشرة التي تتغذّى من جسدك. في ذلك اليوم تزينتِ كما لو أنّك ستحضرين احتفالاً أو حفلة، تلتهمين بقايا الشولنت التي تتراكم في البرّاد، وتهبطين الدرج مستعجلة، سيدة نفسك كما أنتِ دائماً. بحسب المحضر الذي أرسَلَتْه "لي" إليّ، المستخرج من يدري كيف من ملفّك في مكتب التحقيقات الفيدرالي، القطعة الاخيرة من بحثنا، تَمُلين في فناء البناء الفدرالي في تمام الواحدة مساءً. تصعدين الدرج.. وتتوغلين في مكتب الشرطي الخاص هاريسون، الذي تكلمت معه بالهاتف، ست أو سبع مرات على امتداد الأسابيع الأخيرة. ترتعدين؟ لا يليق بك ذلك، يا أمي. كما كنتِ تنفذين أوامر الروس عندما كنتِ تتعاونين معهم بدأب أنت الآن لا تناقشين دوافعك. التاريخ يمسك بك من عنقك. بماذا يفيدك أن تقاومي؟ تبدأين بقصتك، حَذِرة، متجنبة الأسماء والأماكن. لكن الكلام يبدأ ينبثق من حنجرتك دفقاً لا كابح له. تتكلمين وتتكلمين، دون حتى أن نشربي الماء.. حتى ساعة الغروب. كما لو أنك كنت تحتاجين لأن تديني مسيرتك، كما لو أنّه لم يكن هناك وقت لتصحيحات لاحقة. كما لو أن عذابك سينفذ في تلك اللحظة، مقابل كلماتك، اعترافك البغيض ستحصلين على السلام الذي طالما تقتِ إليه. بدءاً من اليوم لن ينغّص عليك حياتك أو يزعجك أحد، إنّه ثمن سلامك وسلامي. ها أنتِ الآن في بروكلين من جديد بعد أن انتهيت من الإدلاء بشهادتك.. نجحتِ في الوصول إلى نهاية هذه الأوبرا الهزلية، المليئة بالخداع والأكاذيب والمكائد والخيانات، تماماً حين بدأت ستارة المطر تمزّق الأفق.
والآن؟ بقي أمامي شيء واحد أفعله، أليس كذلك، يا أمي. أن أتبع خطواتك! أحمي سوزان كما حميتني! أضحي بكل شيء من أجلها! أليس هذا هو الدرس الذي كنتِ تودّين أن أتعلمه؟ أن أغادر هذه الجزيرة وأعود إلى نيويورك كي أنقذ صغيرتي.. قرّائي، أشباهي، أخوتي، هل من أحد منكم ترك نفسه يخدع بنهاية هذه البضاعة الرخيصة؟ عند هذا المستوى بتّم تعرفوني جيداً وتعرفون أنني لن أستطيع أن أفعل مثل هذا.. عودتي لن تفيد ابنتي في شيء وسأحكم على نفسي بأن أقضي السنوات الأخيرة المتبقية لي في زنزانة معزولة الصوت، مجرّداً من موسيقاي. لاشكّ سيكون عليّ أن أغادر هذه الجزيرة بأسرع وقت.. لكن مازال لدي الإمكانات كي أنتقل إلى جنة أخرى من هذه الجنان الأخّاذة (الضرائبية). منطقة استوائيّة حيث لا أحد يسأل أكثر من اللازم، وحيث ينتظرني بفارغ الصبر شركاء لي كي نسبر أسواقاً جديدة. اسمحوا لي أن أختم هذه الصفحات، بواحد من تلك الأسطر الأوبرالية التي طالما تقت لأن أغنيها جهاراً: انتهت المهزلة"
يروي لي فولبي في مذكراته هذه قصة والده، وهو اقتصادي من أصل روسي عمل خلال الحرب العالمية الثانية واتفاقيات بريتون وودز مساعداً لهاري دكستووايت في وزارة الخزانة، يسلّمنا فولبي، المهووس بالكشف عن هويته، فصلاً من تاريخ أميركا السياسي والأخلاقي، الذي لا يجب أن يبقى اليوم، أكثر من أي وقت مضى، طيّ النسيان.
وإلى هذا، فإنّ قصة فولبي هي القصة المروية بضميد المتلكم لجيل كان بين فكّي الخطر والهول والجشع، أوقع العالم في واحدة من أفظع كوارث الزمن الأخيرة، الاقتصادية والإنسانية.. بطل هذه الصفحات ربما شبيه فولبي الحقيقي أو نسخة طبق عنه يخاطر بالكلام، بالبوح، نيابة عنه.