الصوت الأول: في أي يوم نحن الصوت الثاني، نعم، في أي يوم؟ الصوت الثالث: ترقبوا... لقد أوقفوني يوم الجمعة: الجمعة... السبت... الأحد... الأثنين... ولكن منذ متى وانا هنا؟... هذا صحيح... قولوا في أيّ نحن؟ الصوت الأول: يبدو لي... هل تعرفون؟...
إننا بعيدون جداً، بعيدون جداً الصوت الثاني: لقد نسونا في قبر داخل مقبرة قديمة، لقد دفّنا إلى الأبد، الصوت الثالث: لا تتكلم هكذا!... الصوت الثاني: لا... تـ... تــ... الصوتان الأولان: كلموا هكذا! الصوت الثالث: لكن لا تسكنوا!... الصمت يخيفني، إني خائف، أحسّ أن يداً تمتد في الظلام وتمسكني من رقبتي، وتخنقني، الصوت الثاني: تكلموا... اتحدثوا كيف هي أحوال المدينة، أنت آخر من رآها، كيف حال الناس، كيف يسير العالم؟ أحياناً أتخيل أن المدينة بأسرها بقيت مثلنا في الظلام، بين جدران عالية جداً، شوارعها تفرق في الطين الميت لكل الشتاءات السابقة، لا أعلم إن كنتم مثلي ولكن في آخر الشتاء من فكرة أن الطين سيجف، تجتاحني رغبة كبيرة في الأكل عندما أنزل للحديقة، أشتهي تفاح كاليفورنيا... الصوت الأول: كذلك أقول عن البر... تقال... أما أنا فأكتفي بكوب شاي ساخن: الصوت الثاني: اتخيل أن في المدينة، كل شيء يتواصل كما كان، كأن شيئاً لم يقع، كأننا لسنا هنا، مسجونين!...
مؤكد أن القطار يواصل سيره، كم يكن ان تكون الساعة؟... الصوت الثاني: لعلها تقريباً... الصوت الثالث: تكلموا واصلوا الكلام، لا تسكتوا، بحق كل ما تحبون في هذا العالم، لأن الصمت يخيفني... في الزنزانة التي قضى بها المتسولون ليلة، بقي خادم الكنيسة والطالب، ومعهم الآن المحامي أبال كارجفال، لقد وقع إيقافي في ظروف سيئة جداً، قال كارجفال... روى خادم الكنيسة مأساته للمحامي كارجفال: كنت خارجاً من الكنيسة - رأى نفسه خارجاً من الكنيسة، بلباسه الأنيق يعبق برائحة المباخر المطفأة... رأى نفسه عابراً الكنيسة، متأثراً بحضور القربان المقدس، بثبات قناديل الليل... كُلّفْت بأمر من عضو الأخوية، بنزع إعلان تساعية العذراء الأولى من الباب لأن التساعية انتهت... لكن المؤساة، بما أني لا أحسن القراءة، عوض أن أنزع ذلك الإعلان، نزعت ورقة يوبيل أم السيد الرئيس، التي من أجلها وضع السر المقدس... أوقفوني ووضعوني في هذه الزنزانة كأحد الثوار! الطالب فقط لم يفصح عن سبب إيقافه، الحديث عن آلام رئتيه أهون عليه من أن يقول شيئاً سيئاً عن وطنه.
كان يتلذذ بآلامه العضوية حتى ينسى أنه رأى النور في خيبة أمل، أنه ولد بين جثث، أنه فتح عينيه في مدرسة دون نوافذ، حيث أطفأوا، حال وصوله، نور الإيمان الخافت داخله، دون أن يعوضوه بأي شيء، ظلمة، فوضى، إختلال، كآبة مبهمة، وشيئاً فشيئاً يمضع قصيدة الأجيال المضحّى بها: نزور موانئ اللاوجود... دون نور في أذرغا اليانعة، جلودنا المالحة تبللها الدموع... كما يعود البحارة من البحر... يمشي القلب قافزاً من القبر... ألغاز الفجر بين النجوم... خفايا الوهم في الهزيمة... حدّ بعيد عن العالم، جدّ مبكر... للوصول إلى شواطئ الأهداب... تكلموا... قال كارجفال أثر صمت ثقيل... فلنتحدث عن الحرية، همس الطالب... تدخل الصوت الرابع فجأة.
ليس هناك أمل في الحرية، يا أصدقاء، نحن محكومون بتحمل هذا إلى ما شاء الله... المواطنون الذين يتطلعون لسعادة الوطن بعيدون جداً: بعضهم يستجدون الصدقة في أرض غريبة، والآخرون يتعفنون في مدافن جماعية... يوما ستنغلق الشوارع من الرعب، ولن تعطي الأشجار ثماراً كالسابق... سيصبح الهواء خانقاً... وقريباً يأتي زلزال ليسحق كل شيء... فليأت، لأننا شعب مليون، تصرخ فينا أصوات السماء مع الرعود: "أخساء نجسون! شركاء الجور!" على جدران السجون، ترك مئات الرجال آثار أدفعتهم التي فجرتها رصاصات المجرمين، ما زال رخام القصور مبللاً بدماء الأبرياء... أين نولي وجوهنا لنرى الحرية"... بين أميركا الجنوبية وأميركا الشمالية مشوار يمشيه السيد الرئيس على أجساد شعب أراد إسترداد حقه في حريته.
يحاول الروائي تصوير حال البلاد والعباد التي ترزح تحت وطأة طاقم إستخباراتي لم يوفر صغيراً ولا كبيراً وضيعاً ولا عظيماً... قديساً ولا ملحداً... السيد الرئيس ليست بسيرة بلد بحدّ ذاته... هي سيرة بلاد أراد السيد الرئيس فيها أن يبقى سيداً ورئيساً ما همّ ولو انتهى كل شيء.