"أولئك الذين يكونون قريبين منا، حينما يفارقون الحياة، يشطرون عالمنا. فهنالك عالم الأحياء الذي نستسلم له، بشكل أو بآخر، وم ثم هناك دنيا الأموات التي كصديق (أو عدوٍ) متخيل أو خلية سرية، تغرينا باستمرار، مذكرة إيانا بخسارتنا. أيُّ ذاكرة هذه إن لم تكن شبحاً يختبئ في زويا العقل، يشوش علينا طريق حياتنا الطبيعي، يؤرق نومنا كي يذكرنا بوجع شديد أو بسعادة ما، بشيء تمّ كتم صوته، أو تجاهله؟! لم نفتقد فقط حضورهم، أو كيف كانوا يحسون نحونا؛ إنما، جوهرياً، كيف سمحوا لنا بأن نشعر نحو أنفسنا أو أنفسهم. كيف جعلتنا أمنا نشعر نحوها؟ إن الطريقة الوحيدة التي أستطيع أن أواجه به فقدانها هي أن أطرح هذا السؤال. ساءلت نفسي أحياناً ما إذا لم تكن مفقودة دوماص بالنسبة لي، لكنها عندما كانت حية ترزق كنت مشغولة جداً بمقاومتها بحيث أنني لم أدرك ذلك. كان ثمة ميزة مؤثرة في الطريقة التي تتحدث بها عن نفسها وعن ماضيها كما لو أنها هي الأخرى كانت اختراعاً، يحتل جسد امرأة أخرى ظهرت لنا بطريقة معذبة في هيئة ومضات، أشبه براعة. إنني أتساءل بعد لحظات اليراعة تلك: ماذا كشفت لنا تلك اللحظات عن أمي وعنا؟".
هي أشياء كانت "آذر نفيسي"... أحلام آلام أسرار كانت ساكتة عنها وآن أوان البوح بها... في كتابها هذا تقرّ بأنه فات أوان السكوت بالنسبة لها، لتطلق عنان قلمها وذاكرتها... أحزانها وآلامها، فرحها وسعادتها، لتحظ هذه السرديات التي لم تمثل النسبة لها أبداً تلاوة عامة للأزمنة التاريخية، بل هي انصبت على تمثيل نقاط التقاطعات الهشة، الأمكنة التي ترجّع فيها لحظات في الحياة الخاصة الفردية والشخصية الصدى وتعكس قصة أكبر، وشمولية أكثر. نقاط التقاطعات تلك بين ما هو خاص وعام... هو ما تطلعت إليه الكاتبة حينما بدأت بتدوين كتابها الأول في إيران، الذي يتناول فلاديمير نابوكوف. أرادت من خلال ذلك مناقشة روايات نابوكوف في ضوء الأزمنة المختلفة التي كانت قد قرأت فيها، كان ذلك مستحيلاً، ليس فقط لأنها لم تستطع صراحة الكتابة عن الحقائق السياسية والاجتماعية للحياة في الجمهورية الإسلامية في إيران؛ بل أيضاً لأن التجارب الفردية والشخصية كانت تتعامل معها الدولة بوصفها أشياء محرمة.
في هذا الوقت تقريباً بدأت آذر نفيسي بوضع لائحة في يومياتها حملت عنوان... "أشياء كنت ساكتة عنها". وتحت هذا العنوان: "الوقوع في الحب في طهران. الذهاب إلى الحفلات في طهران. مشاهدة أفلام الأخوة ماركس. أن تقرأ لوليتا في طهران". كتبت عن القوانين القمعية والإعدامات، وعن المكاره العامة والسياسة. وفي الختام انجرفت الكتابة عن إنشاء الأسرار العائلية الخاصة، مورطة نفسها وأولئك المقربين منها بطرائق مختلفة. ترى ماهي الأشياء التي كانت آذر ساكتة عنها؟!! "هنالك أشياء كثيرة من السكوت: السكوت الذي تفرضه بالقوة السلطات الاستبدادية على مواطنيها، وتسرق ذكرياتهم، وتعيد كتابة حكاياتهم، وتفرض علهيم هوية أجازتها الدولة. أو سكوت الشهود الذين يفضلون تجهل الحقيقة أو عدم التحدث عنها، وسكوت الضحايا الذين يصبحون غالباً شركاء في الجرائم التي ارتكبت ضدهم. ومن ثم هنالك أنواع من السكوت نطلق العنان لها تتعلق بذواتنا، وأساطيرنا الشخصية، والقصص التي نفرضها بالقوة على حيواتنا الحقيقية. قبل أن أتمكن من تقدير الطريقة التي يرفض بها النظام السياسي عديم الرحمة صورته الخاصة على مواطنيه، سارقاً هوياتهم وتعريفاتهم لأنفهسم، بزمن طويل، كنت قد خبرت مثل هذه الأعيار الثقيلة في حياتي الخاصة-حياتي في كنف أسرتي. وقبل أن أفهم ماذا يعني بالنسبة للضحية أن تصبح شريكة في جرائم الدولة بزمن طويل، كنت قد اكتشفت، بمصطلحات شخصية أكبر بكثير، عار الاشتراك في الجريمة [...] وهذا الكتاب، بمعنىً من المعاني، إجابة عن أسئلة رقيب آذار ومحققها الداخلي.
كتبت عن كل هذا... وكذلك عن أبويها إذ أنها تعتبر أن سرديات تعمل ذكرياتهم، ما استكان في ذاكرتها تجاههم... هو هذا السرد الأكثر شيوعاً من السرديات، والمتعلق بالآباء الراحلين. والذي يمثل الحاجة الملحة إلى ملء الفجوة التي خلفها موتهم. وهذه العملية-عملية الكتابة عن كل ذلك-لا تؤدي إلى نهاية بالنسبة لها؛ بل إلى الفهم. إنه فهم من النوع الذي يجب معه بالضرورة السلم، "بل ربما يجلب إحساساً من خلالها أن نسدي الشكر والعرفان لآبائنا. وبشكل من الأشكال نرجعهم إلى الحياة. وها نحن الآن، أصبحنا أحراراً أخيراً. كي نضع شكلاً لحدود قصتنا هذه