هناك سبيلان لإغلاق العقل، الأول هو إنكار قدرة العقل على معرفة أي شيء والثاني هو رفض الواقع بإعتباره لا يدرك، العقل لا يعرف، أو ليس هناك ما يُعرْف، وكلا النهجين كافٍ لحمل الواقع منبت الصلة.
وفي الإسلام السني وُظّفت عناصر من النهجين في المدرسة الأشعرية، ونتيجة لذلك انفتح شرخ بين عقل الإنسان والله، وهذا الإنفصام القاتل بين الخالق وعقل مخلوقه هو مصدر أكبر إبتلاءات الإسلام السني، هذا الإنقسام الذي لا يقع في القرآن؛ وإنما في الثيولوجيا الإسلامية المبكرة، قاد في نهاية الأمر إلى إغلاق عقل المسلم.
وعليه، لعل السؤال المعاصر هو: إذا كانت الإفتراضات الثيولوجية للمرء حول الواقع غير صحيحة، هل يمكن للمرء أن يتجاوزها إذا ما سدرت هذه الإفتراضات في الدوغما، وأصبحت أركاناً لإيمان المرء؟ فإذا كان المرء يرغب، على سبيل المثال، في التسليم بحقيقة "العلة والمعلول" في النظام الطبيعي، لا يبدو أن هناك أي عقبة في القرآن الكريم تحول دون ذلك، رغم أن القرآن الكريم يفسّر الوقائع بشكل حصريٍّ تقريباً بوصفها نتيجة مباشرة لأفعال الله.
بيد أن العهد القديم يطرح معظم رواياته بذات التأكيد على الفعل الإلهي المباشر على البشر وعلى العالم، لكن ذلك لم يمنع اليهود، أو المسيحيين من بعدهم، من إعتناق السببية، إنها ثيولوجيا المذهب الأشعري، كما تطورت في الفترة من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر ما يجعل هذا الأمر مشكلة في الإسلام اليوم، لأن إنكار الأشعرية للسببية أصبح، بوجه عام، ارثوذكسية سنية وجزء من الثقافة العربية.
وهذا ما قاد المفكر اللبناني الأمريكي فؤاد عجمي إلى القول: "أينما وليت وجهي في العالم الإسلامي تبقى المشكلة ذاتها: العلة والمعلول"، هل أصبح من الصعب؛ إن لم يكن من المستحيل، قلب وجهة النظر الكسيحة هذه التي أجازها الإجماع؟...
قد يبدو معظم هذا الموضوع بعيداً عن المشاغل اليومية، ولا شك أن المسلم العادي قد لا يكون داعماً بتعاليم مفكري الإسلام في القرون الوسطى مثل الأشعري والغزالي، مثلما لا يكون المسيحي العادي واعياً بتعاليم أوغسطين والأكويني، وإذ سألت الإنسان المسلم في الشارع أي مدرسة دينية إسلامية يتبع، فقد لا يعرف إذا ما كان أشعرياً أو ماتريديّاً، ليس اكثر من معرفة المسيحي ما إذا كان أوغسطينياً أو أكوينياً، ولكن هذا لا يعني أن هذا المسلم والمسيحي لم يقعا تحت تأثير أفكار هؤلاء المفكرين.
وعلى الرغم من غياب هذا الوعي؛ فإن القضايا الفلسفية والميتافيزيقية الثيولوجية تحدد في خاتمة المطاف كيف تُعالج المسائل اليومية؛ تحدد في واقع الأمر ماهية هذه المسائل، وقد يكون لما يبدو للمواضيع الثيولوجية / اللاهوتية الغامضة أمضى العواقب من الناحية العلمية ومن ناحية ما تحدثه من أذى، خلق إغلاق عقل المسلم أزمة لم يكن الإرهاب الإسلامي المعاصر سوى واحد فقط من تجلياتها.
وهذه المشكلة أكثر إتساعاً وعمقاً، فهي تغلق فقدان الإسلام للعلم والأفق، أن يطور من داخله حكماً دستورياً ديموقراطياً.
وهذه المشكلة مفتاح لفض مغاليق ألغاز من قبيل: لماذا يقبع العالم العربي قريباً من قاع كافة مقاييس التنمية البشرية، لماذا يكاد يضحمل البحث العلمي في العالم الإسلامي، تغيّر العديد من المسلمين بهذا الإنغلاق.
يقول رشاد شاز، وهو زعيم هندي معاصر يتبنى فكراً إصلاحياً، في مقالته "إعادة إختراع عقل المسلم" على من يتوقون إلى تأسيس إنطلاقة جديدة أن يقبلوا من البداية أن العقل التقليدي لن يقودهم إلى أي مكان، ذلك أن عقلاً مسلماً جديداً هو الحد الأدنى للإنطلاق، وبدون إعادة تنشيط عقولنا لن ندرك إدراكاً كاملاً طبيعة ومقدار خمولنا".
إذن فهذا الكتاب إنما يمثل مسعىً يحاول الباحث من خلال فهم الرحلة التي قطعها الإسلام السني إلى "اللامكان"، فهو يرى أن فهم هذه الرحلة إنما هو السبيل الوحيد للأوبة من هذا الإمكان.
وعليه، فقد عمد الباحث في دراسته هذه رسم صورة عامة للعالم الإسلامي المبكر، وسجاله الديني الأول، ثم قدم أول مدرسة دينية حقيقية ظهرت وهي فرقة المعتزلة وخصومهم فرقة الإشاعرة، ليسلط الضوء من ثم على شخصية الإمام الغزالي التي مثلث المحور الأساسي في هذا البحث، ليشير فيما بعد إلى العواقب الوخيمة لإنتصار الغزالي والأشاعرة، بما في ذلك إنقراض الفلسفة في العالم الإسلامي، لتكون له ومن جرّاء هذا الأثر من ثم إسقاطات على السلوك المعاصر، بما يشمل فحص إنكشاف الإسلام اليوم أمام الإسلاموية، التي تدفع المسلمين السنّة وراء إلى اللإمكان، محاولاً وعلى إمتداد البحث إبقاء القضية الأساسية المتمثلة في موقع العقل - ونتائج تراجع هذا الموقع - في الصدارة.