بلدة الفلوجة أو الفلوجتان أو الفلاليج، حسب تسمية البلدانيين، والاسم من إنفلاج نهر الفرات فيها، كانت مهداً لروائع معروف الرصافي (1875-1945) وارتياباته الفكرية: "الشخصية المحمدية أو اللغز القدس"، والكتاب الذي بين أيدينا "الرسالة العراقية". والكتابان، وغيرهما من كتابات الرصافي المتفرقة، مسطورة بالارتيابات من طقوس الدين السائدة، التي يعتقدها منافية للإسلام، وعودة إلى الجاهلية، ومن أخلاق الناس، والسلوك السياسي، وما جرى من مراعاة بل تشجيع للحمأة القومية والطائفية في بناء الدولة العراقية الحديثة، وهو ما يعد دهاءً ونبوءة للشاعر، فلو كان حياً لقال ما قاله دريد بن الصمة، واستشهد به علي بن أبي طالب: أمرتكم أمري بمنعرج اللوى فلم تستبينوا النصح إلا ضحى الغد
قال الرصافي وكأنه يعني حوادث الساعة: "لو كانت الحكومة العراقية حرة في جميع أمورها لاعتبرت من في العراق من الناس كلهم عراقيين فحسب، فحينئذ تكون هي حكومة وطنية محضة كما جرت به تسميتها بالحكومة العراقية" (الرسالة العراقية). والشيء بالشيء يذكر أن ابن الصمة هذا كان من أمراء هوازن، وسماه علي بن أبي طالب بأخي هوازن (نهج البلاغة، خطبة 35 بعد أمر الحكمين)، وقاتل المسلمين، وابن عم النبي ووصيه حسب أصول المذهب الشيعي، من الاستشهاد بحكمته، فهو يعلم كم في القرآن الكريم من حكم الأولين (الكفار)، فقيسوا كم يحق للرصافي الريبة من عنت معاملات وعبادات اليوم!
ولو أدرك الرصافي الفلوجة (معارك 2004) وفي أيامها الأخيرة عندما تحولت إلى دار هجرة وبغداد دار حرب، لزاد فصلاً في كتابه "الرسالة...". كان الكتاب عبارة عن نثر ساخر بأيام زمانه وحوادثه وشخوصه، لم يسلم منه ملك ولا مملوك. ومن المفارقة كانت الفلوجة الدار التي أختارها معروف الرصافي رغبة في الخلوة للتأمل والكتابة. اختارها الشاعر، إضافة إلى وجود الصديق المعين رئيس بلديتها عبد العزيز عريم، لرحابتها ومجاورتها للفرات، وبعدها عن صخب بغداد وأكاذيب الاجتماع والسياسة. قال أمين المميز، وهو في ديوان عريم بالفلوجة مع الرصافي العام 1928، قبل اتخاذها داراً: "سمعت الرصافي يقول لمصنفه: إذا قدر الله لي أن أهجر بغداد فلن أسكن بغير الفلوجة". أقام بها ثمانية أعوام (1933-1941)، أتاحت له تصنيف كتابه الإشكالي، الذي أعلن فيه ارتياباته من بعض المبشرين بالجنة، فاتحاً غموض الروايات والتباسها، وتجاوز فيه كل ما صنف في السيرة النبوية.