الإسكندرية أخيراً... الإسكندرية قطر الندي، نفثة السحاب البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع.
العمارة الضخمة الشاهقة تطالعك كوجه قديم، يستقر في ذاكرتك فأنت تعرفه ولكنه ينظر إلي لا شئ في مبالاة فلا يعرفك. كلحت الجدران المقشرة من طول ما استكنت بها الرطوبة. وأطلت بجماع بنيانها علي اللسان المغروس في البحر الأبيض، يجلل جنباته النخيل وأشجار البلح، ثم يمتد طرف قصي حيث تفرقع في المواسم بنادق الصيد. والهواء المنعش القوي يكاد يقوض قامتي النحلية المقوسة، ولا مقاومة جدية كالأيام الخالية.
ماريانا، عزيزتي ماريانا، أرجو أن تكوني بمعقلك التاريخي، كالظن وكالمأمول، وإلا فعلي وعلي دنياي السلام. لم يبق إلا القليل، والدنيا تتكرر في صورة غريبة للعين الكليلة المظللة بحاجب أبيض منجرد الشعر.
ها أنا أرجع إليك أخيرا يا إسكندرية. ضغطت علي جرس الشقة بالدور الرابع. فتحت شراعة الباب. فتحت شراعة الباب عن وجه ماريانا. تغيرت كثيراً يا عزيزتي. لم تعرفني في الطرقة المظلمة. أما بشرتها البيضاء الناصعة وشعرها الذهبي فقد توهجا تحت ضوء ينتشر من نافذة بالداخل.
بنسيون ميرامار؟
نعم يا فندم.
أريد حجرة خالية.
الباب فتح. استقبلني تمثال العذراء البرونزي. ثمة رائحة ما لعلي أفتقدها أحياناً. وقفنا نتبادل النظر. طويلة رشيقة، الشعر الذهبي، والصحة لا بأس بها، ولكن بأعلي الظهر أحديداب، والشعر مصبوغ حتماً، واليد المعروقة وتجاعيد زاويتي الفم تشي بالعجز والكبر. إنك يا عزيزتي في الخامسة والستين رغم أن الروعة لم تسحب منك جميع أذيالها. ولكن هل تتذكرينني؟.