"تفاوتت الرؤوس حول الحجرة وانبسطت فوق وهجها الأيدي، يدا أمينة النحيلتنا المعروقتان، ويدا عائشة المتحجرتان، ويدا أم حنفي اللتان بردتا كغطاء السلحفاة... وكان برد يناينر يكاد يتجمد ثلجاً في أركان الصالة، تلك الصالة التي بقيت على حالها القديم بحصرها الملونة وكنباتها الموزعة على الأركان، إلا أن الفانوس القديم بمصباحه الغازي قد اختفى وتدل مكانه في السقف مصباح كهربائي، كذلك تغير المكان، فقد رجع مجلس القهوة إلى الدور الأول، بل انتقل الدور الأعلى جميعه إلى هذا الدور تيسيراً للأب الذي لم يعد قلبه يسعفه على ارتقاء السلم العالي".
هكذا يكشف نجيب محفوظ الستار عن هذا المشهد وهو الأول في "السكرية" في الجزء الثالث، من ثلاثيته. خطوات الزمان بوقع دبيبها تتجلى واضحة على الأجساد والأولاد والأمكنة والأرجاء. وحتى على الأخلاق والعادات، يتابع محفوظ تحرك الزمان من خلال عائلة السيد، الملابس تتبدل، الأفكار تتغير، والشخصيات: السيد، أمينة، ياسين، كمال، خديجة، عائشة، ما زالت تمتلك زمام الحركة في مجريات الأحداث، ولكن يضعها نجيب محفوظ في إطار واقعي محكوم بسمات العنصر الزمني وبعنصر التبدلات السياسية والاجتماعية التي تتضي كلها تغيرات ولكنها تغيرات خاضعة لكل حسب ما حدد محفوظ له شخصيته.